قصة قصيرة: الامل
حسام محمد ديوان - واسط-الكوت
كنا ثلاثة اشخاص في ذلك المربع الضيق الذي لم يتعد طوله ثلاثة امتار وعرضه كذلك، والذي ضاقت دنيانا به.. كنا نتصور انه يضيق علينا يوماً بعد يوم. ولكن الحقيقة ان نفوسنا هي التي كانت تضيق به.
ومما زاد الامر سوءاً اننا نحن الثلاثة لم نكن خليطاً متجانساً.. بل كنا منعزلين عن بعضنا بعض الشيء على الرغم من ان مصيرنا واحد، يحاك خارج هذه الجدران...
عندما أودعت هذا المكان كان هناك شخص قد سبقني اليه.. انه رجل كبير في السن _قد يصل السبعين_ ويبدو انه ينتمي الى الاسرة العلوية، لأن الحراس كانوا ينادونه (السيد) ما كان يميز هذا الرجل هو هدوئه واستقراره ومحافظته على الصلاة وقراءة القرآن، واكثاره من الأدعية.. وعلى الرغم من المدة التي قضاها سجينا, وتقرب من عشرين عاماً.. كان دائماً يرنو ببصره الى السماء وكأنه يتطلع الى شيء يخلصه مما هو فيه.. وكنت اشعر حينها انه قد يخلصني انا أيضاً.. بل وكل البائسين في الغرف المجاورة.. ولا أدري ما الذي يدعوني الى مثل هذا الشعور.. لكن عينيه كانتا تحكيان ذلك.
كنت في سجني اعيش الصمت والعزلة.. اما هو فكان مشغولا بصلاته ودعائه.. وذلك الشيء -المخلّص-.
لم ابق مع السيد طويلاً حتى حل علينا ضيف آخر.. كان يبدو في الاربعين من العمر.. كانت ملابسه ممزقة.. تغطي الكدمات وجهه.. دخل علينا ولم يزد على قول (مرحبا).. الغريب في الامر ان ضيفنا حينما أبصر (السيد) وهو واقف يصلي رمقه بنظرة استهزاء وسخرية بقيت حائراً ازاءها.. ولم استطع تفسيرها.. فأنا أعلم ان الجميع يكنّ لمثل هذا النوع من الرجال كل حب واحترام.. ولكن سرعان ما ذهبت حيرتي بعد أن عرفت مكنون هذا الرجل وتبيّن لي انه ينتمي الى الاحزاب الالحادية والتي بطبيعتها تضمر العداء والسخرية للمتدينين.. ولم يكن دخوله السجن سوى معارضته لنظام الحكم فقط.. انه حينما جلس الى جانبي بدأ يتكلم عن اساليب النظام الحاكم وظلمه الفاحش ثم اخذ يتحدث عن الانظمة الحاكمة في البلدان الاخرى. وكان يقارن بينها.
كان كلامه هذا يتكرر كل يوم.. ورغم انه كان يصل معي الى نتائج يقرها.. لكنه يعود في اليوم التالي لينفيها ثم ليتوصل الى نتائج جديدة..
وفي احد الايام -وكعادته- بدأ حديثه الفلسفي الطويل، وفي ختام حديثه نظر اليّ قائلاً: يا صديقي ان هذه الانظمة المتعددة والمختلفة انما قامت ليس للوصول الى السعادة فقط.. وانما للتخلص من الظلم أيضاً.. ولكنه ما زال قائماً الى الآن.. ترى هل هذه الانظمة قاصرة؟ ام انها لم تطبق القواعد بشكل تام وصحيح؟ ام أن المسألة تتعلق بالظلم نفسه.. لأنه يبدو شيئاً ازليا لا يمكن التخلص منه؟.. وفي ضوء هذه التساؤلات ما هو مستقبلنا؟.. انه في غاية المجهول.
كانت هذه التساؤلات تضغط عليه في الآونة الاخيرة.. وبدأت تأخذ حيزاً كبيراً من نفسه.. وأخيراً ادرك أنّه لا يمكنه تغيير اي شيء.. وانه كل جهوده قد ذهبت أدراج الرياح.. ووصلت به المسألة ان أصبحت نظرته الى المستقبل سوداوية متشائمة..
كان صاحبي يقول: ان البشرية تسير في ظلام دامس.. ولسوف (تبقى في سيرها هذا دون أن تصل الى النور.. وكيف تصل الى شيء غير موجود!)
كان مجرد التفكير في مستقبل الايام يخيفه الى حد الارتباك والارتعاش.. ولا يثنيه من حالته هذه إلا صرخات كانت تسمع من بعيد.. تجعله يدع مثل هذا التفكير.. ولكن لافائدة، لقد كانت نتيجته انه كان يتجه نحو الاسوأ مع تقادم الايام وصعوبتها.. هذا ما كنت افكر فيه أخر مرة وقبل أن يقفز شبح (السيد) امامي.. عندها قلت في نفسي، لقد مكث هذا الرجل هنا عشرين سنة، ولكنه مازال صلبا لا تقهره الايام, فما الذي يجعله كذلك؟
اترى هو الامل الذي يشع من عينيه.. وهو ينتظر ذلك (المخلّص) الذي طالما سمعته يقول عنه: (انه خلف الباب وهو ينتظرنا أيضاً؟).
نعم انه هو.. لقد منحه الامل واغلق عليه باب الياس.. وبالرغم من انه يعيش في صحراء مجدبة.. فإنّه قد الهمه السعادة الحقيقية..
فهي الحقيقة.. لقد كنت ارى امامي نموذجين مختلفين.. آمن كل منهما بشيء واخلص له.. الّا ان النتائج مختلفة فذاك غارقة في ماديته التي قد تآكلت بفعل الايام وعذاب الياس.
وهذا قد تمتع بهدوء وسكينة لأنّ هناك من يرسم له الامل بريشة الصبر وعذوبة الانتظار.