الوهابيون في السعودية اقلية وليسوا اكثرية
حمزة الحسن
اعتاد الباحثون والكتاب النظر إلى المملكة العربية السعودية على انها دولة متجانسة.
كان -وربما مازال- هذا مظهرها، أو هذا هو ما قُدم من معلومات عنها, فارتسمت تأسيساً على ذلك صورتها في مخيلة الآخرين.
غير أن حقيقة المملكة -بل الجزيرة العربية- وعلى مدى التاريخ تحكي قصة أخرى هي ان المملكة والجزيرة العربية بشكل عام، لم تكن في تاريخها المعروف كله متجانسة، لا في جاهليتها ولا في إسلامها، لا قبل قيام الدولة الحديثة, ولا بعدها.
ان المملكة دولة غير متجانسة في حقيقتها، فهي متعددة الثقافات والمذاهب والأعراق والمناخات والأقاليم واللهجات والجغرافيا والتاريخ السياسي. وعدم تجانسها لا يعني بالضرورة عدم قدرة مكوّناتها على الانسجام.
لقد عكست السياسات المحليّة صورة غير حقيقية عن واقع المملكة، تلك السياسات أرادت أن تقول بأن المملكة نسيج عرقي واحد، ونسيج مذهبي واحد، فهي دولة (سلفية) كما قال وزير الداخلية نايف للصحفيين المحليين.
وجه المملكة الخارجي لا يعكس واقعها التعددي الثقافي والديني، ومن هنا كانت كتابات الغربيين بوجه خاص بعيدة عن الواقع. وقد أفضى شحّ المعلومات عن المملكة ووضعها الداخلي إلى رسم صورة مغرقة في الخطأ والتعميم.
وخلال العقد الأخير بدأ ما يمكن توصيفه بإعادة اكتشاف المملكة من جديد، ليس من قبل الخارج فحسب، بل من قبل أبنائها في الداخل أيضاً. فقد كان اتساعها القاريّ (نحو مليوني وربع مليون كيلومتر مربع) وتشرذم السكان على مساحة واسعة من الأرض مطوّقة بالصحاري وابتعادهم في مناطق شبه مغلقة، إضافة إلى ضعف أدوات التواصل بينهم رغم ثورة المعلومات، كل ذلك رسم صوراً نمطيّة في أذهان الكثير منهم. فقد كانت كل منطقة تشبه الدولة منفصلة الشعور والتواصل مع الآخرين، وبسبب الضغوط -الطائفية والسياسية مجتمعة- اختفت حقيقة وواقع التعدد في المملكة من السطح، وبقيت صورة واحدة كرّسها الإعلام المحلي لعقود طويلة.
والصورة الأقرب إلى الحقيقة التي نحاول كشفها هنا هي, وباختصار, ان هناك دولة (سعودية) تحوي طيفاً واسعاً من المواطنين المختلفين مذهبياً ومناطقياً وقبلياً، جرى توحيدهم في إطار سياسي واحد استكمل في يناير/ كانون الثاني ١٩٢٦ وأعلن عنه في ١٩٣٢ تحت مسمّى المملكة العربية السعودية.
أما الواقع التعددي فلم يتغيّر كثيراً منذ ذلك الحين، فخصائص المناطق التي تشكلت منها المملكة لاتزال باقية على حالها رغم محاولات حثيثة لاتزال قائمة في هذا الاتجاه من أجل إعادة تشكيل نسيجها الاجتماعي والثقافي بشكل يذيب تلك الخصائص في بوتقة دينية واحدة هي (الوهابية), ومناطقية واحدة هي (نجد) , اللتان لعبتا الدور التوحيدي السياسي القسري فصنعتا الدولة السعودية الحديثة وطبعتاها بطابعهما.
ان الخارطة الدينية/المذهبية في المملكة متوائمة مع الخارطة السياسية المناطقية. وبهذا الاعتبار يمكن النظر إلى مجتمع المملكة على انه مجتمع أقليات) لا يحوز أي منها ما نسبته ثلث عدد السكان, فالمملكة تتشكل من أربع مناطق رئيسة هي:
١-المنطقة الوسطى (نجد) حيث يغلب عليها المذهب الحنبلي بقراءته السلفية الوهابية. وعلماء المذهب هنا هم عماد المؤسسة الدينية الرسمية وهم من يسيطر على كل الحقول الدينية والقضائية والتعليم والتوجيه الديني والمساجد والأوقاف وغيرها. إن وجه الدولة الديني يرسم في هذه المنطقة دون أية مساهمة من سواها.
ويبلغ عدد سكان هذه المنطقة حسب الإحصاءات الرسمية المنشورة (وهي إحصاءات لا يؤخذ بها عادة من قبل الباحثين بسبب البواعث السياسية التي تقف وراءها) نحو ٣٢.١٢% من مجموع السكان، ويعيشون على مساحة ٣٦.٢٠% من مجمل مساحة المملكة. وكانت (نجد) نفسها تحوي عدداً من الشيعة يقيمون في حائل تحت سلطة التسامح التي أقامها ابن الرشيد (من قبيلة شمر) قبل أن يسيطر عليها الملك عبد العزيز، حيث استخدم وجود أولئك الشيعة تحت منطقة نفوذ ابن الرشيد مبرراً دينياً للحرب ضدهم, وضد ابن الرشيد نفسه وسلطته.
٢. المنطقة الغربية (الحجاز) ويغلب عليها المذهب المالكي والشافعي إضافة إلى وجود مجموعات دينية أخرى صغيرة من المذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها الزيدية والشيعة الجعفرية في المدينة المنورة، والشيعة الكيسانية في ينبع, وثم الفرق الصوفية.
وحسب الإحصاءات الرسمية فإن عدد السكان في الحجاز يبلغ نحو ٣٢.٨٧% من مجموع سكان المملكة ويعيشون على مساحة تقدر بـ ٩٩ر٣٠% من مجمل مساحة المملكة. والحجازيون لهم مرجعية دينية خاصة بهم، ورموز دينية مثل السيد محمد علوي المالكي، وهم يميلون إلى المدرسة الدينية الأزهرية في مصر، ولهم تواصل مع شخصيات دينية عديدة في الخليج (الإمارات) وسوريا وغيرهما.
لقد غاب دور الحجاز في صناعة القرار الديني وانتقل بعد سيطرة السعوديين عليه إلى العاصمة الرياض وبريدة في المنطقة الوسطى، ولم يتبق للحجازيين من دور ديني على مستوى المملكة سوى النزر اليسير.
٣. المنطقة الجنوبية (عسير وجيزان ونجران) وهي منطقة فسيفسائية من حيث النسيج القبلي والمذهبي. فكل المذاهب الإسلامية توجد في تلك المنطقة بما فيها المذهب الرسمي الذي حقق بعض الانتشار هناك نتيجة خلوّ المنطقة من المدارس الفكرية الفاعلة. ويوجد في المنطقة الجنوبية المذهب الشافعي والمالكي إضافة إلى الزيدي، وتقطن نجران أغلبية ساحقة تنتمي إلى المذهب الإسماعيلي ولها مرجعيتها المحلية الخاصة بها وهم (المكارمة) ويقدر عدد أولئك الاسماعيلية في المملكة بنحو نصف مليون نسمة.
٤. المنطقة الشرقية (القطيف والأحساء) حيث تقطنها أكثرية شيعية، ولكن هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها ٣١.٢٨% من مساحة المملكة ويبلغ تعداد سكانها حسب الإحصاء الرسمي ما نسبته ٦٧ر١٤% من مجموع السكان، قد حوت منذ قرون بعيدة مدارس دينية عديدة كانت قويّة وحاضرة حتى منتصف القرن الماضي، وكان على رأسها بيوتات معروفة حتى اليوم, فالمدرسة المالكية وجدت من يمثلها في بيت علم (آل مبارك), والشافعية في (آل عبد القادر) والأحناف في (آل الملا). أما الحنابلة فقد أُضعفوا من قبل السعوديين وأجبرت زعامتهم الدينية منذ العقود الأولى في القرن الثالث عشر الهجري إلى الهجرة خشية الانتقام كـ (الشيخ ابن فيروز مثالاً).
ما يمكن استنتاجه هنا هو:
* ان النزوع إلى القفز فوق الواقع التعددي يراد منه افتعال حقيقة التوافق الديني, والانتصار لاتجاه مذهبي معين على حساب الاتجاهات الأخرى.
*إن المملكة العربية السعودية لا تحكمها أغلبية مذهبية معيّنة. والثنائية التي تعيشها لم تكن في تاريخها الحديث ثنائية شيعية سنيّة بقدر ما كانت ولاتزال ثنائية سلفية وهابية جرت على أساسها حروب توحيد المملكة من جهة، ومن جهة أخرى تصطف بقيّة المذاهب، وهي كلّها -دون استثناء- تستشعر الغبن الديني والسياسي المفروض عليها.
* إن جغرافيا الشيعة في المملكة العربية السعودية ليس محصوراً في المنطقة الشرقية، وهم اليوم موجودون في كل أنحاء البلاد بما فيها العاصمة، حيث يقيم نحو ٣٠ ألفاً من المواطنين الشيعة اما للعمل أو الدراسة.
* كذلك فان تاريخ الجزيرة العربية يكشف عن حقيقة التعدد الثقافي والديني فيها، ولقد قامت دول سنيّة في مناطق شيعية (الجبور والخوالد وغيرهم في المنطقة الشرقية) كما قامت دول شيعية في مناطق سنيّة بما فيها نجد نفسها (دولة الأخيضريين) وكذلك في المدينة المنورة.. هذا فضلاً عن دولة الإمامة في عمان هي اباضية، ودولة الإمامة في اليمن هي زيدية.
أكثر من ذلك يمكن القول إن أقليّة دينيّة يهودية عربية كانت تسكن جنوب المملكة، ولم ترحل عنها إلا بعد قيام الدولة اليهودية في فلسطين المغتصبة.
ومن هنا يجب إدراك حقيقة هذا التعدد والكفّ عن محاولات إخفائه وطمسه, وكأنّه عيب, أو أن وجوده يشير إلى فشل (مذهبي) أي فشل في عملية التوحيد المذهبي القسري.
ان هذه الحقيقة يفترض التعاطي معها كما هي بدل أن يعيد الباحثون والمراقبون إعادة اكتشاف المملكة (اجتماعياً) فيصحون على حقائق مهولة مغيّبة- مثلما يعاد اليوم إعادة اكتشاف وضع الشيعة في العراق- وهي أن يكون وجه الدولة سلفياً في المملكة أو سنيّاً في العراق منذ نشأتيهما كدولتين قطريتين في العشرينيات من القرن الميلادي الماضي.
قد يخفي الواقع عن الخارج لفترة زمنية، وقد يلغى ذلك الواقع من على السطح من جهة عدم الاعتراف بوجوده، ولكن ذلك لا يفيد في تغيير الحقائق السياسية المترتبة والمبنية في بعض جوانبها على أساس تكتلات مذهبية.
*هذا الواقع التعددي في بعده المذهبي لم يحظ باعتراف الدولة ولم تعكسه بوضوح اللوائح القانونية رغم كونه كثيف الحضور في العلاقات الداخلية وفي توزيع مراكز السلطة والخدمات وتقسيم الثروة. فالنزوع إلى القفز فوق هذا الواقع التعددي يراد منه افتعال حقيقة التوافق الديني والانتصار لاتجاه مذهبي معين على حساب الاتجاهات الأخرى، لأن الاعتراف والتعامل مع التعددية المذهبية يثير مسألة الحقوق الدينية والفكرية لأتباع المذاهب الأخرى, كما يتطلب في الوقت ذاته إعادة تقييم للامتيازات التي يتمتع بها المذهب المنتصر من قبل الدولة. أي بكلمات أخرى إعادة تشكيل السلطة ومكوناتها على أسس جديدة لا يرى القائمون عليها حتى الآن أنها تحقق الأغراض المنشودة من نشأتها.
ان ما ينعكس خارجياً عن توافق ديني في المملكة ليس سوى القناع الذي يخفي وراءه تنوعاً مذهبياً يصبغ الخارطة الاجتماعية للمملكة، ويحمل معه شروط العلاقة الصحيحة للتعامل معه كيما لا يُفتأت على جزء منه لحساب جزء آخر.
*إن رفض الدولة خلق فضاء من التسامح الديني يؤسس له الاعتراف بالتعددية المذهبية ويشيعه مبدأ القبول بالاختلاف وحرية المعتقد قد يغذي الخيارات الراديكالية، وقد ينمي ميولاً متشددة لدى المضطهدين دينياً للخلاص من الشقاء المفروض عليهم من قبل الدولة.