ادعاء المهدوية يدلّل على عمق العقيدة بها
الاسعد بن علي قيدارة
مع بزوغ فجر الإسلام اتّضحت أكثر معالم فكرة المخلّص، وصدّق الرّسول مابين يديه من بشارات، وأعطاها مداها الواقعي وتفاصيلها التي تفتقر إليها الأديان السابقة.
لقد بشّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالمهدي عليه السلام واتّفق جميع المسلمين بمختلف طوائفهم، إلاّ ما شذّ منهم ممن لا يعتدّ بهم، على صحّة هذه الأحاديث في الجملة وتواترها الإجمالي، ومن هنا تعمّقت هذه الفكرة في وجدان المسلمين، وكان لها صداها العميق في وعيهم وتاريخهم، وتمّ لأجل ذلك توظيف الفكرة في سبيل تعبئة الجماهير ضدّ الظلم والطغاة مستغلّين المخزون العاطفي العميق لهذا المفهوم وللقائد المنتظر المهدي عليه السلام، فظهر في التاريخ الإسلامي مهديون كثيرون، بل قامت على أساس الدعوة إليه دول ودويلات هنا وهناك.
وهذه الظاهرة جديرة بالدراسة المعمّقة والمتأنّية وهو مالا تتحمّله هذه القراءة السريعة في هذا المقال.
إنّ أكثر الادعاءات في بعدها الإيجابي تدلّل على عمق تلهّف المسلمين إلى قائدهم المخلّص،خاصّة حينما كانت تعصف بهم ظروف اجتماعية وسياسية قاهرة.
وقد وظَّف العبّاسيون سياسياً مفهوم المخلّص - المهدي - -فلمّا جاء دور المنصور بعد السفّاح استغلّ شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها، فلقّب ابنه بالمهدي على أساس هذه الفكرة، وادّعى أنّه هو المهدي المنتظر، ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني، وجعل ابنه ولي عهده، وكان تأسيسه للدولة العباسية على أساس ديني بتلقيبه ابنه هذا بالمهدي، وتسمية أُمّ المهدي بأُمّ الخلفاء تشبّهاً بأُمّ المؤمنين-.
ويقول عبد الرحمن بدوي: -فالعبّاسيون قد لجؤوا أيضاً إلى فكرة المهدي في الدعوة إلى أحقّيتهم بالخلافة، فقد ذكر المسعودي أنّ الخليفة العباسي الأوّل الملقّب بالسفّاح كان يلقّب بالمهدي، وكذلك ثالث الخلفاء العبّاسيين سمّي المهدي، وهو الذي خلّف أبا جعفر المنصور-.
وفي المغرب الإسلامي استفاد المعارضون للعبّاسيين من مشاعر السخط والنقمة التي تختلج صدور البرابرة ضدّ السلطة العبّاسية، وبثّ فيهم أبو عبد الله الشيعي الدعوة للمهدي المنتظر، فانقلبوا على العبّاسيين، وظهر عبيد الله المهدي بعد أن وطّن له الأمور أبو عبد الله الشيعي، وأسّس عبيد الله المهدي مدينة المهدية، وشاد أركان الدولة الفاطمية، ومن نسل عبيد الله كان المعزّ لدين الله الفاطمي الذي فتح مصر على يد جوهر الصقلي وسمّاها المعزّية، وأسّسوا _أي الفاطميون_ هناك حضارة عظيمة أقاموها ونشروا فيها التشيّع وظلّوا قروناً حتّى أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي.
ومن الدول التي قامت في المغرب كذلك باسم المهدي، دولة الموحّدين، تحت إمرة محمّد بن تومرت، والتي انطلقت من الجبال البربرية جنوب المغرب الأقصى حوالي سنة ١١٣٠م، فبعد أنْ احتلّ الموحّدون المغرب الأقصى ومقاطعة تلمسان بين ١١٣٠-١١٤٧م، ثمّ المغرب الأوسط، غزوا أفريقية واحتلّوا المهدية سنة١١٦٠م -وكان نتيجة ذلك دولة الموحّدين المشهورين في التاريخ... فكانت هذه مملكة عظيمة من بركات المهدي المنتظر تشمل المغرب كلّه إلى حدود مصر والأندلس، وكانت أيضاً دولة شيعية عظيمة تستند إلى فكرة المهدي-، وفي عهد هذه الدولة ظهر الفيلسوفان المشهوران -ابن الطفيل- و-ابن رشد-، فقد سمح للفلسفة بعد أن كانت محظورة في الأندلس.
وفي المشرق قامت ثورات عديدة رافعة لواء المهدي، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّه في العصور الأولى لم يكن لشعارات العدالة الاجتماعية ومقاومة الظلم صدى في النفوس إلاّ بمقدار ارتباطها بشعار ديني، وهذا ما أكّده ابن خلدون حين ذهب إلى أنّ العرب أُمّة لا تنقاد إلاّ لرسالة دينية ونحوها.
لقد استفادت هذه الثورات من المفهوم العقائدي المتجذّر لدى الأُمّة -المهدي عليه السلام- لتصعيد العمل الثوري ضدّ السلطات القائمة، انطلاقاً من التردّي الاجتماعي والنفسي للجماهير، ونحن لا يمكننا في هذا المقام تقويم هذه الحركات وحقيقة ما ينسب إليها من أعمال مشينة فظيعة، واعتقادات فاسدة باطلة بقدر ما يهمّنا إلى أي مدى تعكس هذه الجماعات الارتباط التاريخي بالمخلّص كثورة الزنج، وثورة القرامطة،وثورة الحشاشين.
ولم تنتفِ ظاهرة مدّعي المهدية في التاريخ الحديث أيضاً، وبزغ أكثر من مصلح باسم المهدي، ومع أنّهم لا يدينون بمذهب أهل البيت عليهم السلام.