عقيدة المخلّص في التراث الإنساني/ الحلقة الثالثة
الاسعد بن علي قيدارة
أوضحنا في الحلقة السابقة بعض ما جاء عن المخلص والخلاص في تاريخ الإنسانية وسنوضح في هذه الحلقة جانباً آخر من هذا التاريخ.
البوذية:
في البوذية -النرفانا- هي درب الخلاص، وبوذا -الذي من معانيه المنقذ المنتظر- هو المخلّص.
ولكن من هو بوذا ؟ وما تعاليمه؟ وما هي وسيلة النرفانا؟
بوذا هو غواتيما سدهارتا ولد سنة /٥٧٣/ق.م، من عائلة ملكية تعيش الرفاه والترف، عَزف عن هذه الحياة على الرغم مما وفّره له أبوه من وسائل الملذّات واللهو حتّى يشغله عن تأمّلاته في آلام الإنسان وعذاباته وتفاهة الحياة، وفي سنّ التاسعة والعشرين فرّ من قصر أبيه واتجه إلى البراري، التقى هناك باثنين من رهبان البراهمة لكنّه سرعان ما تركهما حين عرف أنّهما يطلبان التقشّف والزهد لذاتهما، وهو يريد الزهد طريقاً إلى أسرار الكون.
واصل سيره إلى أن بلغ ضفة نهر -جاياومو- وجلس تحت شجرة -البو-، وهناك بدأ في التأمّل الجاد على طريقة الرجال المقدّسين في الهند، عازماً أن يظلّ في تأمّله على هذا النحو حتّى يصل إلى الاستنارة التي يسعى لها.
بعد مجاهدة روحية أمكنه أن يتغلّب على كلّ العوامل الشريرة التي تربط الناس، ودخل إلى نطاق العالم الأزلي، وهكذا استيقظ سدهارتا وصار بوذا أي الرجل المستنير، -ويوضّح التراث البوذي أنّه كان باستطاعته عند هذه النقطة أن يظلّ هكذا دون أن ينشغل أو يهتمّ بالعالم الفاني الزائل، لكنّ بوذا رحمة منه وشفقة على جماهير الجنس البشري طرح هذا الإمكان لكي يكرّس نفسه خلال الفترة الزمانية الباقية لإعلان الـ-دهاما -DAHAMA أو الحقيقة الأزلية التي أيقظته-.
ما هي النرفانا؟
إنّها تلتقي بالانطلاق عند الهندوسية، والنجاة عند الجانتية، إنّها تعني الخلاص من تكرار المولد، وهي تقوم كما ذكرنا سابقاً على عقيدة تناسخ الأرواح.
لمّا أتت الإشراقة الروحية لبوذا تحت الشجرة المقدّسة وسمع ذلك الصوت يشعّ في داخله -نعم، في الكون حقّ أيّها الناسك، هناك حقّ لا ريب فيه، جاهدْ نفسك حتّى تناله-، حاول الشيطان -مارا- غوايته بهجران عالم الفناء والاستمتاع بعالم النرفانا، ولكن بوذا أصرّ أنّه لن يترك هذا العالم حتّى يأخذ بأيدي الآخرين إلى طريق الخلاص، من هنا قيل: إنّ النرفانا هي التخلّص من رغبات الذات وشهواتها، وأن يصبح الإنسان سيّد رغباته بفضل قوته الروحية الداخلية.
وقيل: إنّها وصول الفرد إلى أعلى درجات الصفاء الروحي لتطهير النفس والقضاء على جميع الرغبات المادية، ويصبح المقياس عندئذٍ: -كلّ من أراد أن ينقذ حياته عليه أن يخسرها-.
وقيل: إنّ النرفانا هي الاندماج في الإله والفناء فيه _في المرحلة التي كان يقول فيها بوذا بوجود إله_.
وقيل: إنّها إنقاذ الإنسان نفسه من الكارما، وتكرار المولد بالقضاء على الرغبات، والتوقّف عن عمل الخير والشرّ.
لقد واجه بوذا صعوبات في نشر تعاليمه؛ لأنّ تجربة الإشراق تجربة ذاتية داخلية يصعب تفسيرها للآخرين لمعرفة النفس ومعرفة طريق الخلاص.
ولمّا ترك بوذا منطقة الآلهة فارغة وأعرض عن الحديث عن الآلهة، وبحكم الميل الفطري للناس إلى الإله، ونزوع الهنود خصوصاً إلى تعدّد الآلهة، فقد اتجه البعض إلى القول بأنّ بوذا هو تجلّ إلهي، وقال بعضهم: إنّه تجسّد لفشنو إله البراهمة ـ كما ذكرنا ـ، وفي مرحلة لاحقة لتطوّر البوذية ظهرت المهايانا (النهج الكبير) التي استطاعت أن تحتلّ عمقاً شعبياً بعد أن تجاوزت ضرورة حياة الأديرة، وفسّرت النصوص الدينية بأقلّ صرامة وتشدّد.
وفي إطار المهايانا ظهر مفهوم البوذستفا: وهو يطلق على كلّ شخص يكون على أعتاب النرفانا ثمّ يؤجّل عامداً الدخول في حالة الغبطة النهائية -النرفانا- شفقة منه على جماهير الناس العاديين، وبدلاً من أن يتحوّل إلى بوذا كامل فإنّه يظلّ مقيماً في العالم الزماني مكرّساً نفسه لخلاص الآخرين، ويعود الفضل إلى فكرة المخلّص البوذستفا BODHI-ATTVA في انتشار البوذية في الصين، على الرغم من ازدراء الكونفوشية لكن -غالبية جماهير الشعب الصيني كانت على استعداد للترحيب بالتعاليم الجديدة لاسيّما رسالتها عن البدهشتا السماوية، التي يمكن أن يلجأ إليها المرء للمساعدة، لالتماس الخلاص من شرور هذه الدنيا وأحزانها-.
وهكذا تؤكّد المهايانا ما يذهب إليه التراث البوذي من أنّ بوذا ظهر من وقت لآخر طوال التاريخ البشري، وسوف يواصل الظهور على هذا النحو... ويحصل هذا حسب مصطلحاتهم التقليدية كل/٥٠٠٠/ سنة.
ويَعتَبِر صاحب (قصّة الحضارة) التبشير بالمخلّص إحدى ميزات المهايانا، فيذكرها في معرض تعداده لها -.. واعترافها ببوذيين منتظرين يخلّصون البشر بخلود الروح الإنسانية-.
الزرادشتية:
-زرادشت- أو -زوراستر- اختلف في تاريخ ولادته فمن قائل أنّه ولد /٦٢٨/ق.م أو/٦٠٠٠/ق.م إلى قائل آخر يدّعي معاصرته لبوذا وكونفوشيوس وجينتية، مارس نشاطه شمال شرق إيران، حُفظت تعاليمه في سبع عشر ترنيمة تعرف بجاثا GATHA- وهي تمثّل القسم الأكبر من الأبستا ABE-TA الكتاب المقدّس عند الزرادشتيين.
المبدأ الأساسي عند زرادشت أنّ الشرّ لا يأتي من الخالق، لأنّ الشرّ جوهر مثل الخير، وكلّ منهما يرجع إلى سبب أوّل، فكان إله الخير -أهورامزدا- وكان إله الشرّ -أهرمان- المسؤول عن شرور العالم وعن الأمراض والموت والغضب... فالتاريخ هو تاريخ صراع بين الخير والشرّ، بين أهورامزدا وأهرمان، ودور الإنسان يتحدّد بالقيام بدور فاعل في هذا التغيير من خلال المساهمة في التغلّب على الشرّ الأهرميني، جاء في كتابهم المقدّس-أتستطيع أن تكون من أولئك الذين يجدّدون هذا العالم.
وينقسم التاريخ باعتقادهم إلى أربع حقب، تمتدّ كلّ حقبة ثلاثة آلاف سنة، وقع التشابك في الفترة الثالثة بين أهورامزدا وأهرمان بعدما كان كلّ منهما يجهّز قوته وسوف ينهزم الشيطان في النهاية.
سيظهر المنقذ -ساونشيان- الذي سيولد من عذراء ستظهر في بحيرة كاسنويا، وإنّ التجديد النهائي سيحصل على الأثر من تضحية ساونشيان الذي سيأتي لتجديد الحياة في نهاية الحياة، وستمحى في زمانه جميع الشرور التي أثارها أهرمان، وسيتمّ خلق العالم من جديد، وستتحد الأرواح بالأجساد، ويرى بعض المؤرِّخين أنّ زرادشت اعتقد أنّ الأرض ستصلح من بعده مباشرة، ولكن عندما لم يحدث ذلك وبقيت الأرض على ما هي عليه اعتقد أتباعه أنّه سيتبع بثلاثة منقذين يظهر كلّ عام...
وبموجب أسطورة متأخّرة فإنّ الزمن يتضمّن ١٢ ألف سنة مقسّمة إلى أربعة أقسام، كلّ قسم٣٠٠٠ سنة، والحقبة الأخيرة حظيت بتعاليم زرادشت، وتنتهي بمجيء ساوشيانت أو المنقذ٣٦، ونلمح هذا النزوع إلى المخلّص في كتابهم المقدّس -دُلّني يا مزدا على قائد مخلّص حكيم متلطّف يقودني إليك-، -اجعلنا من الذين يجدّدون هذا الوجود-، -اعمل كي تكون من زمرة الأشخاص الذين يساهمون في سبيل رقي وكمال هذا العالم-.
هناك أديان قريبة من الزرادشتية تلتقي معها حول الثنوية والإيمان بإله الخير وإله الشرّ، واتفقت معها أيضاً حول فكرة المخلّص، من هذه الأديان:
أ. المانديون: يؤمنون بأن ملك النور وسيد العظمة هو -مانا- العظيم، الذي يقابل مملكة الظلام، ويعتقدون أنّه قد تم خلقه من طريق فيوض صدرت عن مملكة النور، ومن أهمّ الموجودات التي صدرت عنه المخلّص -مانداهاي- أو معرفة الحياة، ومنها اشتق اسم هذه الديانة، ويؤمنون أن ّالروح سجينة البدن، ونهاية العالم عندما يحصل التخلّص من الأرض والكواكب، فإنّ أرواح الأتقياء الأبرار سوف تتحرّر -ويمكن أن يتمّ التحرّر هنا نتيجة لعمل هيبل زيوا HIBILZIWA وهو مخلّص اقتحم العالم وهزم أرواح الشرّ-.
ب. المانوية: ولد -مان- سنة/٢١٦/م، وأعلن أنّه جاء ليتمّ عمل زرادشت وبوذا والمسيح عليه السلام، وهو يؤمن بثنائية إله النور وإله الظلام، وقد وحّد إلَهه مع إله المستمعين له، فإذا وجّه خطابه إلى المسيحيين فهو المخلّص يسوع، وعندما يخاطب الزرادشتيين فهو الإنسان الأوّل أهورامزدا. يتبع إن شاء الله تعالى.