التمهيد المهدوي
طرابلس دولة التشيّع ومدينة العلم والمصاحف
انّ انتشار مذهب أهل البيت حالة حتمية سيؤول إليها أمر البشرية لا محالة، وان مسألة تحقيقها امر بات قريبا؛ لاسباب كثيرة، من ابرزها الفكر الضخم والاطروحة المفعمة بعلاج المشاكل البشرية المزمنة، فالدين المحمدي يمثل حالة التواصل الحيوي مع مبادئ السماء وإلى يومنا هذا من خلال ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن عليه السلام.
ونحــــــن في ((صدى المهدي)) سنفرد لهـــــذه الظاهرة الحتمية صفحة خاصة نتناول خلال اعمدتها انتشار التشيع فكراً وعقيدة في أغلب بلدان العالم والذي يسهم ان شاء الله في تهيئة الأرضية المناسبة والجو الملائم للظهور المبارك لصاحــــــــب العصر والزمان عليه السلام.
هيئة التحرير
ظلم التاريخ في الإقصاء:
تقودك بعض الأسطر رغم قلتها أحياناً ما، لاكتشاف حقيقة كبيرة طمستها أحقاد وضغائن، لتمحو أصالة ومبادئ وخلقاً وتسامحاً يصعب على الإقصاء والتحجّر والعنف أنْ يعيش معه.
تلك هي الحقيقة التي غيّبها التاريخ عن عمد لمدينة طرابلس عندما حكمها الشيعة الإمامية الإثنا عشرية الذين جعلوا المدينة وكل بيت فيها _ أثناء حكمهم_ خلية من العلم والكِتاب والقرآن، وسلوكاً لأفرادها من التعايش والتسامح والتواد وقبول الآخر.
تلك هي دولة بني عمار حكّام طرابلس الشيعة، فما قصة هذه المدينة وقصة دفاعها ضد الصليبيين وصمودها أمامهم لسنين طويلة لولا الخيانة من قبل من لقّبوا بعد ذلك تخرّصاً بمصلحي الدين وهازمي الصليبيين.
مدينة طرابلس تلك المدينة الكبيرة بتأريخها، الصغيرة بمساحتها، ذات الجذور التأريخية الممتدة في اعماق الزمان والتي تعاقبت عليها أيادي صنّاع الحضارة والتاريخ والفن فألبستها ثوباً مطرزاً من كل لون، وجعلت منها حلة أثرية تتناغم مع مختلف الثقافات والأعراق والتقاليد، تلك المدينة التي كان لها الاثر ليس في الثقافة فقط، ولا في العمران، ولا في الزراعة، بل كانت مدينة تلعب الأدوار في الصراعات السياسية، وتؤثر على مجريات الأحداث العسكرية إلى أنْ وصلها بنو عمار وأسسوا فيها دولتهم الشيعية الإمامية الإثنى عشرية والتي استمرت قرابة الأربعين سنة، فاضفت على هذه المدينة لوناً آخر وطعماً فريداً، زاد في حسنها وجمال صورتها.
بنو عمار وتأسيس الدولة:
يُرجع أهل الأنساب والتراجم بني عمار إلى قبيلة (كتامة) المغربية الأفريقية والذين كان لهم دور كبير في تأسيس الدولة الفاطمية، وكانت لهم الوزارة فيها ردحاً من الزمن، إلى أنْ دارت الأحداث وأدّت الصراعات والانقلابات إلى إقصائهم وتحييدهم عن مكانتهم وتهجيرهم إلى طرابلس.
ومنها انطلق بنو عمار _الذين مسكوا زمام القضاء في هذه المدينة أوّل الأمر_ بتأسيس دولتهم، حيث ينقل بعض المؤرخين كالسيد محسن الأمين وناصر خسرو ويسري الأيوبي أنّ مدينة طرابلس كانت في القرنين الرابع والخامس الهجريين كلها شيعية، وإنما جاء ذلك من بني عمار الذين كانوا على مذهب الشيعة الإمامية.
شحّة المصادر التاريخية التي تتحدث عن بدايات بني عمار لما ذكرناه في المقدمة لم توقفنا على كيفية نشوء هذه الدولة وبدايات تأسيسها، إلاّ أنّ ما يذكر في أنّ أول من حكم من بني عمار في طرابلس ومؤسس الدولة فيها هو أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار الطرابلسي، الذي كان معاصراً للشيخ الفقيه أبي الفتح الكراجكي، على ما ينقله السيد محسن الأمين، ثم تولى بعده أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار المتوفى سنة ٤٦٤هـ، وبعد وفاة أمين الدولة تولى ابن أخيه علي بن محمد بن عمار الملقب بجلال الدولة، والذي استمر في الحكم ما يزيد على العشرين سنة، حيث توفي في سنة ٤٩٢هـ، وبعد وفاة جلال الدولة حكم فخر الملك عمار بن محمد إلى سنة ٥٠١هـ، وبعد حصار الصليبيين لاكثر من عشر سنوات على طرابلس والمدن الواقعة تحت أمرة بني عمار سافر الأمير عمار بن محمد فخر الملك قاصداً النجدة من بغداد ضد الصليبيين فخلف بعده ابن عمه ابا الفرج الملقّب بشمس الملك، إلاّ أنّ أبا الفرج انقلب عليه وعصاه وأعلن رجوع طرابلس وما تحتها إلى الفاطميين، ولكن لم تلبث أنْ سقطت طرابلس بيد الصليبيين.
امتداد دولة طرابلس:
لم تقتصر حكومة بني عمار على طرابلس وحدها، خصوصاً بعد أنْ استقرت الأمور بيد جلال الدولة، حيث توسّع حكمهم إلى انطاكية والبقيعة وصافيتا من جهة سوريا، أمّا من جهة لبنان فقد امتّد من جهة إلى بيروت ومن جهة أخرى إلى العاقور وجبيل والهرمل وغيرها من القرى والبلدات، فكان حكمهم يشمل جزءاً كبيراً من لبنان اليوم وبعضاً من سوريا.
مدينة العلم والمصاحف:
تقاس الدولة ومكانتها بما تتمتع به من مميزات انجزتها، وترتقي هذه الدولة على غيرها بنفس المميزات ونوعها وكميتها، وافضل ما يقاس به تميّز الدولة عن غيرها هو النجاح الثقافي والعلمي الذي تحققه، فرب دولة تتمتع باقتصاد هائل او قوة عسكرية ونفوذ سلطوي كبير إلاّ أنّها لا تتمتع بمؤهل فكري أو علمي، فما تلبث أنْ تسقط وتنحسر، بينما يبقى النمو والذكر والتاريخ رغم الحجب والضغط والاقصاء لدولة كانت سمتها العلم والثقافة.
ودولة بني عمار الشيعية الإمامية الإثنا عشرية ضمت عدداً كبيراً من المكتبات، حتى نقل أنّه يندر أنْ تجد فيها بيتاً خلواً من الكتب والمكتبات، فيما تميّزت العاصمة بأكبر مكتبة ضاهت في حجمها وتنوعها مكتبات بغداد وغيرها من الإمبراطوريات الكبرى، حتى نقل جرجي زيدان في (تاريخ التمدّن الإسلامي) أنّ عدد الكتب في مكتبة طرابلس التي تسمى بـ(دار العلم) وصل إلى ثلاثة ملايين كتاب، وذكر بعضهم أنّها تحوي اقل أو أكثر من هذا العدد، وهو رقم كبير جداً يدل على ما كانت تتمتع به هذه الدولة من مكانة ثقافية وعلمية واهتمام بالعلم والعلماء، بل تنقل بعض الكتابات أنّ طرابلس لم تكن تستورد كل هذه الكتب، إنّما هي انشأت الكثير من المصانع التي تنتج الورق بمختلف أنواعه حتّى أبدى الرحالة ناصر خسرو إعجابه بجودة الورق الطرابلسي ونوعيته ولكنّه وللأسف فقد أقصى التاريخ كل ذلك ولم يذكره، لا لشيء إلاّ لأنّ هذه الدولة ورعاياها شيعة إمامية.
وما يحزّ في النفس أنّ هذه المكتبات وخصوصاً دار العلم قد لاحقتها يد الإقصاء والتدمير، حتى نقل أنّه عندما دخل الصليبيون طرابلس سنة ٥٠٢هـ واسقطوها بعد مقاومة دامت عشر سنوات متتالية توجّه جمع من الغزاة إلى دار العلم، وكان من بينهم الكاهن (برترام الصنجيلي) فأخذ يطوف في أرجاء المكتبة يتصفح رفوفها وكلما سحب كتاباً وتصفحه وجده قرآناً فيلقيه على الأرض ويتناول نسخة ثانية وهكذا إلى أنْ كرّر الأمر عشرين مرة، فصاح صارخاً بعد أنْ تصوّر أن هذه الملايين من الكتب كلها مصاحف وأمر بحرق المكتبة فأحرقوها عن آخرها.
هؤلاء هم الشيعة عندما يؤسسون الدولة، همّهم الأوّل القرآن والعلم والكتب، وهمّ غيرهم الحرق والإقصاء والتدمير.
بنو عمار وجهاد الصليبيين الغزاة:
يبدو أنّ القدر بل العقيدة جعل الشيعة في مواجهة الكفر والإلحاد والصليبية منذ ذلك الزمن وإلى يومنا هذا، ويبدو أنّ السلطة والمال لم تفارق الإقصاء، ولم تبتعد عن التزييف والتكذيب، فأينما وجد الشيعة وجد الدفاع عن الإسلام وحماية العرض والمقدسات، ومتى ما كُتب التاريخ بيد السلطة والمال جعل منهم _أي الشيعة_ تعديّاً الخونة ومعبّدي الطرق للغزاة والكفرة.
فها هم بنو عمار يقاتلون الصليبيين، بينما لا يتجه الصليبيون إلى مقاتلة تلك الإمبراطورية العظمى الممتدة في أطراف الشرق والغرب والتي تحكم باسم الإسلام إدّعاءً، لماذا؟
بل يتجهون صوب دويلة صغيرة ويحاصرونها سنين طويلة، وتأبى هذه أنْ تسقط بأيديهم لولا الخيانة، فلماذا يتركون من يتظاهرون بحكم المسلمين وتحكيم الإسلام والذين تمتد رقعة ملكهم على أصقاع مترامية الإطراف ويقصدون الشيعة؟.
يذكر السيد حسن الأمين في مقال له إنّه عندما وصل القائد الصليبي إلى مشارف بلاد الشام كان أول من أدرك هذا الخطر هو فخر الملك بن عمار، فصمم على أنْ يعدّ العدّة لمواجهته قبل أنْ يتغلل في البلاد الشامية، فأرسل مجموعة من الرسل إلى الأمراء والملوك من اجل الاتحاد لمواجهة هذا الغزو، وينقل ابن الاثير أنّ الرسالة منه إليهم كانت (من الصواب أنْ يعاجل صنجيل) لكنّه وللأسف لم يمد بتلك القوة والعدد بل القليل ممن جاء معه لم يصمد بل هرب، فضرب الصليبيون حصارهم على هذه الدولة براً وبحراً لعشر سنين، فأصبح شعار بني عمار السيف بعد أنْ كان شعارهم الكتاب، وإنْ ظل للكتاب عندهم تلك المكانة الرفيعة والمنزلة الكبرى، يقول ابن الاثير في أحداث سنة ٤٩٦هـ (وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الافرنج ويقتلون من وجدوا منهم في طريقهم).
ويتبيّن من هذا المقطع أنّ الملك فخر الملك كان يقوم بالمهمتين الدفاعية والهجومية في نفس الوقت، ويذكر ابن الاثير في أحداث سنة ٤٩٩هـ (ان صنجيل بعد أنْ ملك مدينة (حيلت) وشدد الحصار على طرابلس وبنى بالقرب منها حصناً وأقام مراصد، منتظراً للفرصة وقد خرج إليه فخر الملك ابو علي ابن عمار فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المحترقة فانخسف بهم فمرض صنجيل من ذلك فمات بعد عشرة أيام.
إلى أنْ يقول ابن الاثير: واستمر الحصار إلى هذا الوقت وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد).
ويقول ابن الاثير في أحداث سنة ٥٠١هـ (جاء فخر الملك الى بغداد قاصداً باب السلطان مستنفراً على الفرنج بعد أنْ ضاقت عليه الاقوات واشتد الامر على اهل البلد وقد استقبله السلطان في بغداد بحفاوة بالغة، إلاّ أنّ فخر الملك لم ينل منه غير الوعود وخابت آماله).
وينقل بعض المؤرخين أنّه وبعد ذلك اجتمعت على طرابلس قوات كبيرة من الفرنج أدّت إلى سقوطها بعد خيانات ممن خلفهم فخر الملك عند سفره الى بغداد.
طرابلس مدينة العلم والعلماء:
في زمن حكم بني عمار كان الداخل الى طرابلس يرى مدينةً تعجّ بمنتديات الادب والشعر ومجالس العلم والعلماء، وقد كان العلماء والادباء والشعراء يقصدون طرابلس وحكامها، إذ يجدون عندهم الحظوة والعناية والرعاية، ومن بين من قصد طرابلس أبو العلاء المعري، والمتنبي، وابن بطوطة الذي افرد لها فصلاً خاصاً في رحلته.
المدنيّة والعمران:
لم يكن بنو عمار يشغلهم اهتمامهم بالكتاب والعلم عن غيره من الجوانب الاخرى، فقد اهتمّوا بإعمار هذه الدولة ونظموا بنيانها، فبنوا الاسواق والمدارس والمساجد، بل وسبقوا الكثير من دول العالم المتحضّر اليوم في هذا المضمار، حيث شيدت في بلادهم مصانع الورق والسكر والحرير، واستثمروا كل الموارد الطبيعية التي هيأتها لهم أرض طرابلس، ولم يغفلوا الزراعة والاستثمار فيها، فشيدوا الانهار وبنوا السدود ونظموا قنوات الري، ومن بين الانهر التي تعرف في طرابلس اليوم نهر (أبو علي) الذي يعد تقليداً لذكرهم، حيث كان هذا النهر يفيض دائماً ويحدث أضراراً، فوضع الملك ابو علي ابن عمار خططه ونفذها في تنظيم ري مياه هذا النهر.
وقد عرفت مدينة طرابلس في زمن بني عمار بكثرة ما تنتجه من الفواكه والخضار، فلا يكاد يوجد دار بغير شجر.
كل هذا لم يشغل بني عمار عن الاهتمام بالصناعة، فقد قلنا انهم بنوا مصانع الورق والذي نشأت على اثرها صناعة التجليد بعد أنْ كثر الوراقون، واهتموا كذلك بصناعة الحرير الذي ادهش العالم في وقته، ولم يغفلوا مع ذلك كله الملاحة البحرية والاهتمام بها فأنشأوا الأساطيل حتى قيل إنّ الاوربيين ما عرفوا البوصلة وكيفية استعمالها إلاّ من خلال بني عمار.
وكل هذا التقدم والتطور في مجال الصناعة والزراعة والري والشعر والادب اثّر على جنب التجارة، حتى اصبحت مدينة طرابلس وسواحلها منفذاً تجارياً من اهم المنافذ في ذلك الزمان، فقد نقل أنّ فخر الملك عمار كان يلقب بملك الساحل.