شرح دعاء الندبة/ الحلقة الخامسة عشرة
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلا وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية:
وَقُلْتَ (اِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً).
والحديث في محاور:
المحور الأوّل: مر بنا في الشروح السابقة أنّ الاجتباء المحمدي من قبل الله سبحانه وتعالى له ولأهل بيته لوحظ في هذا الدعاء من عدة زوايا، منها زاوية المؤهلات التي عكسها الدعاء وأوجبت هذه المكانة له ولهم عليهم السلام، ومن زاوية الآثار التي ترتّبت على هذه المكانة المتفرعة عن تلك المؤهلات، وهناك زوايا أخرى ستنعكس من خلال النصوص الآتية والتي تضمّنها هذا الدعاء المبارك، فبعد أنْ جعل الله سبحانه وتعالى الوجود بأكمله بيتاً، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام أهل هذا البيت وأنّ من يدخله هو الآمن وعلى مختلف المراتب من الأمان، وانّ في هذا البيت مقاماً سامياً جُعل لإبراهيم لشدّة ولائه لأهل البيت عليهم السلام، وانّ كل من اشتد ولاؤه كان بالإمكان أنْ يكون له مقام، وانّ أدنى مرتبة من المراتب التي يحظى بها الداخل لهذا البيت هو الأمان.
وهنا قد يسأل سائل: أنه لمَ جُعل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام هذه المكانة وجُعلوا أهل البيت الإلهي؟، فجاء الجواب على لسان الدعاء أنهم لمكان طهارتهم وتطهرهم صاروا كذلك، ولأنّهم لا رجس فيهم ومعهم استحقوا هذا، فلكي لا يستعظم السامع أو إذا سأل السائل عن سر هذا الجعل الإلهي جاء المقطع البعدي قائلاً: وقلت (اِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً)، فكونهم عليهم السلام أهل البيت الإلهي لابدّ أنْ يكون نابعا ومتفرعا من أصل اقتضى هذا التمييز والتميز، وذلك هو التطهير وإذهاب الرّجس.
وقد يقول قائل مرة أخرى إنّ كثيراً من عباد الله المخلصين قد طهّروا واذهب عنهم الرّجس فلم يكونوا أهلاً للبيت الإلهي؟، فيأتي الجواب أنّ التطهير هنا تطهير بأعلى المراتب وإذهاب للرّجس بأدناها، بل وانّ التطهير للغير وإذهاب الرّجس عن الغير أياً ما كان إنما جاء لأجل ولائهم لأهل البيت عليهم السلام، ولذلك استحق إبراهيم عليه السلام أنْ يكون له مقام في البيت عليهم السلام، لأجل الولاء لآل البيت وبسبب هذا الولاء طُهر واستحق هذه المكانة.
المحور الثاني: إنّ التطهير الوارد في هذا المقطع إنما هو تطهير إرادي (إختياري) وليس تطهيراً جبرياً، فلأنّ أهل البيت عليهم السلام ابتداءً أرادوا القرب إلى ساحة القدس الإلهي قرباً بأعلى مراتبه دون قصد لمنفعة أو جزاء، وإنما لمحض كون القرب من ساحة القدس الإلهي هو أكمل الكمالات، فبمقتضى علم الله الأزلي بهذه الإرادة النابعة من ذوات آل الله، ولأنّ هذا القرب بهذه المرتبة التي لم تخطر على قلب بشر سواهم يحتاج إلى أعلى مرتبة من التطهير ترافقها أدنى مرتبة من إذهاب الرّجس ( أي التنزه عن مطلق الرجس وان كان قليلاً) فلكي يكونو عليهم السلام محلاً لهذا القرب فلابدّ أنْ لا يكون هناك رجس ولو بأدنى مراتبه، ولابدّ أنّ هناك تطهيراً بأعلى مراتبه ولأنّهم أرادوا ذلك ابتداء فكانت إرادة الله تعالى أنْ يطهرهم فقال: (اِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً). على غرار بعض الآيات القرآنية (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)، فالآية وإنْ كانت تقرّب من جهة وتبعّد من جهات، إلاّ انّ محل الشاهد فيها أنّ الإرادة الإلهية في التطهير والإذهاب إنما كانت لأنّهم عليهم السلام أرادوا ذلك، فأراد الله سبحانه وتعالى لهم ذلك، ولأنّ المقام يقتضى أعلى مرتبة لأنّ كونهم آل الله وأهل بيت الوجود الإلهي يقتضي مقاماً رفيعاً، فكان هذا المقام مفتاحاً لهذه الرفعة.