حيرة الأنام أم حيرة الإمام عليه السلام؟
السيّد محمّد القبانجي
تظافرت الروايات عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام على حدوث الغيبة، والحيرة في الإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن عليه السلام، حتَّى اقترنت الحيرة بالغيبة في كثير من رواياتها.
ومن الواضح أنَّ مرجع الغيبة وصاحبها هو الإمام الثاني عشر عليه السلام لدلالة الأخبار المتواترة عليها.
أمَّا الحيرة فيمكن تصوير البحث عنها وعن مرجعها على ثلاثة مناهج رغم أنَّ الكثير من الروايات تقرنهما معاً، وترجع الضمير فيهما إلى صاحب الأمر عليه السلام، منها ما ورد عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللهN: (المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلُقاً، تكون له غيبة وحيرة حتَّى تضلّ الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
ومنها ما ورد عن اُمّ هانئ الثقفية، قالت: غدوت على سيّدي محمّد بن علي الباقر عليهما السلام فقلت له: يا سيّدي آية في كتاب الله عزوجل عرضت بقلبي فأقلقتني وأسهرت ليلي، قال: (فسلي يا اُمّ هانئ)، قالت: قلت: يا سيّدي قول الله عزوجل: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (التكوير: ١٥ و١٦)، قال: (نعم المسألة سألتيني يا اُمّ هانئ، هذا مولود في آخر الزمان هو المهدي عليه السلام من هذه العترة، تكون له حيرة وغيبة يضلُّ فيها أقوام، ويهتدي فيها أقوام، فيا طوبى لك إن أدركتيه، ويا طوبى لمن أدركه).
أمّا المنهج الأوّل فهو: إرجاع الحيرة إلى الأمّة والناس وتحيّرهم وتردّدهم وتوقّفهم بعد شهادة الإمام الحادي عشر عليه السلام، وهذا ما حصل بالفعل حتَّى وصل الأمر بالبعض منهم إلى الإنكار ونفي الولد للإمام العسكري عليه السلام، أي انَّه لم يتوقَّف عند حدود التردّد والحيرة، بل أوصلته حيرته إلى النفي والإنكار كما يذكر ذلك التاريخ، قال النعماني في الغيبة: (أيُّ حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجمّ الغفير، ولم يبقَ عليه ممَّن كان فيه إلاَّ النزر اليسير...)، وقال الصدوق قدس سره في (كمال الدين): (... فوجدت أكثر المختلفين إليَّ من الشيعة قد حيَّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس...).
واستدلَّ أصحاب هذا المنهج بالكثير من الروايات الصريحة في وقوع الحيرة عند بعض الناس، منها:
١ _ عن أبي علي بن همّام، قال: سمعت محمّد بن عثمان العمري قدَّس الله روحه يقول: سمعت أبي يقول: سُئل أبو محمّد الحسن بن علي عليهما السلام، (فقيل له: يا ابن رسول الله، فمن الحجّة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمّد، هو الإمام والحجّة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أمَا إنَّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثمّ يخرج فكأنّي أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة).
٢ _ ورد في توقيع الإمام المهدي عليه السلام: (... أنَّه اُنهي إليَّ ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشكّ والحيرة في ولاة أمورهم، فغمَّنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لأنَّ الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنائع ربّنا، والخلق بعد صنائعنا. يا هؤلاء، ما لكم في الريب تتردَّدون، وفي الحيرة تنعكسون؟...).
٣ _ ورد في توقيعه عليه السلام أيضاً: (... كيف يتساقطون في الفتنة، ويتردَّدون في الحيرة، ويأخذون يميناً وشمالاً، فارقوا دينهم، أم ارتابوا، أم عاندوا الحقّ، أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة، أو علموا ذلك فتناسوا ما يعلمون أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة إمَّا ظاهراً وإمَّا مغموراً...).
وعلى هذا الأساس واستناداً إلى هذا المنهج والذي يعضده الواقع أيضاً من وقوع الحيرة والتردّد والشكّ في أوساط الشيعة فضلاً عن الآخرين سارع أعلام الطائفة إلى تأليف كتب لإثبات الولادة والغيبة ورفع الشكّ والحيرة، فقد ألَّف أبو العبّاس عبد الله بن جعفر القمّي صاحب (قرب الإسناد) المتوفّى سنة (٣٠٠هـ) كتاباً أسماه: (الغيبة والحيرة)، وألَّف الفقيه المحدّث علي بن بابويه القمّي المتوفّى سنة (٣٢٩هـ) كتاباً أسماه: (الإمامة والتبصرة من الحيرة)، وهكذا أبو الحسن سلامة بن محمّد بن إسماعيل الآزوني المتوفّى سنة (٣٣٩هـ) له كتاب (الغيبة وكشف الحيرة)، وكذلك أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله المعروف بالصفواني الشريك مع النعماني في القراءة على ثقة الإسلام الكليني له كتاب (الغيبة وكشف الحيرة)، وبادر الشيخ الصدوق قدس سره إلى تأليف كتابه القيّم والذي ألَّفه بإرشاد الإمام المهدي عليه السلام كما يقول هو في مقدّمة الكتاب وأسماه: (كمال الدين وتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة)، وكلّهم صرَّحوا في مقدّمة كتبهم أو في طيّاتها بوقوع الحيرة والتردّد وحدوث موجة التشكيك لدى البعض من أبناء الطائفة أبان شهادة الإمام العسكري عليه السلام، فكانت كتبهم ردّاً على هذه الشبهة وتثبيتاً لعقائد الأمّة من الزيغ والانحراف.
المنهج الثاني: إرجاع الحيرة وحصولها إلى نفس الإمام الثاني عشر عليه السلام، ويمكن أن يُستدلّ لأصحاب هذا المنهج بما يلي:
١ _ جميع الروايات التي تذكر أنَّ له غيبة وحيرة، حيث اقترنت الحيرة بالغيبة مع وحدة الضمير في (له)، فهي إن لم تكن صريحة بالمطلوب فعلى الأقلّ هي ظاهرة فيه، وتقع الغيبة والحيرة للإمام عليه السلام ظرفاً لضلال الأمّة وانحرافها عن جادّة الحقّ، وليس سبباً في الإضلال فهو خلاف اللّطف الإلهي، ولا نريد الخوض فيه فهو خارج محلّ الكلام.
٢ _ ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (... وهكذا يفعل الله تبارك وتعالى بالقائم الثاني عشر من الأئمّة عليهم السلام، يصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيّه موسى عليه السلام، ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور)، وهي صريحة في حدوث وحصول الحيرة له سلام الله عليه.
٣ _ ما ذهب إليه العلاَّمة المجلسيG في بحاره بعد إيراده رواية الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: (... هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، تكون له غيبة وحيرة، يضلُّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون)، فقلت: يا أمير المؤمنين، وكم تكون الحيرة والغيبة؟ قال: (ستّة أيّام، أو ستّة أشهر، أو ستّ سنين)، حيث علَّق عليها بقوله: (... ولعلَّ المراد بالحيرة التحيّر في المساكن، وأن يكون في كلّ زمان في بلدة وناحية، وقيل: المراد حيرة الناس فيه، وهو بعيد).
فالمجلسيG استبعد إرجاع الحيرة للناس ولا أقلَّ في هذه الرواية، واستقرب إرجاع الحيرة إلى شخص الإمام المهدي عليه السلام.
المنهج الثالث: حصول الحيرة لهما معاً، أي للإمام عليه السلام وللأمّة كلّ بحسبه، أي مع اختلاف الحيثيات جمعاً بين المنهجين وأدلَّة الفريقين. فلا يمكن قصر الأمر على الإمام وحده لحدوث الحيرة عند الأمّة بلا شكّ ولا شبهة كما مرَّ من الروايات، بل واقع الحال، وكذا لا يمكن قصر الأمر على الأمّة وحدها مع وجود روايات بحدوث وحصول الحيرة لشخص الإمام أيضاً، فالمنهج الثالث هو محاولة للجمع بين المنهجين من خلال عدم التعارض بين الروايات.
ولكن يبقى على أصحاب هذا المنهج والذي قبله أن يجيبوا على إشكالية حصول الحيرة عند الإمام عليه السلام مع اعتقاد الطائفة بعصمة الإمام وعلمه اللدنّي وتوكّله على الله وثقته به والتسديد من قبله والكثير من مقامات الإمام التي يمكن أن تقف حائلاً لتقبّل المنهج الثالث والثاني.
ويمكن أن يجاب عن هذه الإشكالية بأنَّ المقصود بالحيرة بما لا ينافي هذه الأمور العقدية، فليس فيها دلالة على عدم التوكّل أو عدم الثقة بالله، بل إنَّ المقصود منها عدم الاستقرار المكاني ممَّا يستوجب قلقاً وتنقّلاً دائماً وعدم طمأنينة بالأماكن التي يقصدها، فهو يسارع إلى تغيير موضع سكناه وتخفّيه، وهذا كلّه يستوجب انشغال الإنسان بموضع سكناه بشكل دائم، أين سيكون؟ وأين ينام؟ و...
وهذا هو المقصود من الحيرة، وهي بهذا المعنى لو صحَّ الإطلاق أمر طبيعي حادث للإمام عليه السلام، فهو بأبي واُمّي الشريد الطريد الوحيد الفريد الموتور بأبيه...